ربما أرجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قليلاً، نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، غير أن هذا الموضوع يبقى قنبلة موقوتة في العلاقة الفلسطينية ـ الأميركية الهشة أصلاً.
تنبه الفلسطينيون إلى مخاطر هذه القضية مع الفوز المفاجيء لترامب في الإنتخابات الرئاسية فسارعوا لمحاولة التواصل مع طاقمه ولكن من دون جدوى.
في شهر كانون الأول / ديسمبر 2016، قيل لوفد فلسطيني رفيع برئاسة أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات ورئيس جهاز المخابرات العامة اللواء ماجد فرج، كان في زيارة إلى واشنطن للقاء كبار المسؤولين في وزارة الخارجية والبيت الأبيض، بأن عليهم الإنتظار إلى ما بعد حفل تنصيب ترامب في العشرين من شهر كانون الثاني / يناير للتواصل مع فريقه.
قال عريقات لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية: "لم نكن على معرفة بأحد من فريق الرئيس ترامب وبعد أن استمعنا إلى هذا الجواب عدنا أدراجنا".ولكن حال عودة الوفد إلى رام الله وصلت رسالة من خلال أصدقاء، إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس مفادها أن "ترامب ينوي الإعلان عن نقل السفارة في يوم التنصيب."
وعلى الرغم من أن الإعلان لم يتم في يوم التنصيب غير أن الرسالة كانت صادقة تماماً. فقد روى السناتور الجمهوري بوب كوركر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، لمجلة "بوليتكو" الأميركية لاحقاً أن أعضاء فريق ترامب "كانوا جاهزين لنقل السفارة في الساعة 12:01 من يوم 20 كانون الثاني / يناير وربما حتى في الساعة 12 و30 ثانية، كانت هذه ستكون الخطوة الأولى."
وقال ثلاثة مسؤولين فلسطينيين لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية" إن الرئيس الفلسطيني عباس حاول الإتصال بترامب لتهنئته بالفوز وإثارة مخاطر نقل السفارة معه، ولكن من دون جدوى.
وفي إثر ذلك وجه الرئيس عباس رسالة من صفحتين في الثامن من كانون الثاني / يناير إلى ترامب استهلها بالقول "نرى أن من واجبنا أن نضعكم في بصورة تبعات نقل سفارة بلدكم الصديق إلى القدس."
لم يرد الفلسطينيون أن تكون المواجهة سمة بداية العلاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، ولذلك فقد أضاف عباس: "نخشى أن يكون ذلك ذريعة لإثارة النفوس، وزيادة التطرف والعنف وتحويل الصراع من صراع سياسي إلى صراع ديني، مؤكدين مجدداً موقفنا الثابت والرافض لكل أشكال العنف والإرهاب."
وتابع الرئيس الفلسطيني في رسالته: "لقد عجز الكثيرون عن صنع السلام بيننا وبين الإسرائيليين، وإننا نتطلع لأن تكون أنت من يصنع التاريخ، ويحقق الإنجاز الكبير."
غير أن الفلسطينيين لم يتسلموا رداً على هذه الرسالة، وقال عريقات في حينه: "لم نتسلم رداً من الجانب الأميركي عليها."
كانت تلك المرة الأولى التي ينقطع فيها الفلسطينيون تماماً عن إدارة أمييكية منذ تدشين العلاقة الفلسطينية ـ الأميركية رسمياً لدى التوقيع على إتفاق اوسلو في حديقة البيت الأبيض في سنة 1993.
فقد أحصت "مجلة الدراسات الفلسطينية" ستة اجتماعات عقدها الرئيس جورج بوش الإبن مع عباس في الولايات المتحدة واجتماعين آخرين في رام الله في الضفة الغربية ومنتجع شرم الشيخ المصري في الفترة بين 2005 و2008 .
أمّا في فترتي ولايتي الرئيس باراك أوباما (2009 ـ 2016) فقد عقد الأخير ستة اجتماعات مع عباس في واشنطن ونيويورك واجتماع آخر في رام الله في آذار / مارس 2013.
وأحصت "مجلة الدراسات الفلسطينية" 19 اجتماعاً عقدتها وزيرة الخارجية السابقة كونداليسا رايس مع عباس في الضفة الغربية في الفترة بين 2005 و2008 أتبعتها وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون بعقد 5 اجتماعات معه في رام الله وأبو ظبي وباريس في الفترة بين 2009 و2012.
وكان النصيب الأوفر من الاجتماعات لوزير الخارجية السابق جون كيري الذي احصت "مجلة الدراسات الفلسطينية"، من خلال موقع وزارة الخارجية الأميركية، 23 إجتماعاً عقدها مع الرئيس الفلسطيني في الفترة ما بين 2013 و2015 في الضفة الغربية، والأردن، وفرنسا، وبريطانيا وتركيا، من دون أن يشمل ذلك عقد أكثر من إجتماع خلال الزيارة الواحدة وتلك التي عقدت في الولايات المتحدة حيث يقول مسؤول فلسطيني إنه تم عقد 43 إجتماعاً بينهما.
وأيضاً، لا تشمل هذه المعطيات عشرات الإتصالات الهاتفية التي أجراها رؤساء ووزراء خارجية أميركيون مع الرئيس الفلسطيني.
ويؤكد مسؤولون فلسطينيون لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية" أن الرئيس الفلسطيني كان أول زعيم خارج الولايات المتحدة يتصل به الرئيس الأمريكي باراك أوباما بعد فوزه في الإنتخابات سنة 2009.
أخذاً بعين الإعتبار هذا التاريخ الحافل من الإجتماعات والإتصالات فإن إنقطاع الإدارة الأميركية الجديدة عن القيادة الفلسطينية بدا مستغرباً وأثار الشكوك.
في المقابل أحصت "مجلة الدراسات الفلسطينية" محادثتين هاتفيتين بين ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 2016 و22 كانون ثاني / يناير وإجتماعاً في البيت الأبيض في 15 شباط / فبراير وإتصال وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون مع نتنياهو في 2 شباط / فبراير.
وحتى مطلع شهر شباط / فبراير، عندما اجتمع رئيس المخابرات الفلسطينية اللواء ماجد فرج مع رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) مايك بامبيو وعضو مجلس الأمن القومي الأميركي جيسون غرينبلات في واشنطن، فإن الإتصالات الفلسطينية ـ الأميركية اقتصرت على القنصل الأميركي العام في القدس دونالد بلوم.
في الرابع والعشرين من كانون ثاني / يناير قال بلوم للرئيس عباس في مقر المقاطعة إن "الإدارة الأميركية لا تزال في المراحل الأولى من دراسة قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس."
لم ير الكثير من الفلسطينيين في هذا تطميناً، لا سيما في ضوء تكرار تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب بأنه لا يزال يدرس الموضوع وإنه قرار صعب وسيقدم عليه في الوقت المناسب.
وفي 14 شباط / فبراير، وصل رئيس المخابرات المركزية الأميركية مايك بامبيو إلى مقر المقاطعة في رام الله وطلب من الرئيس الفلسطيني الصبر قليلاً لحين ترتيب الإدارة الأميركية الجديدة أمورها، مشيراً إلى أن الإدارة الجديدة لا تنوي تجاهل السلطة الفلسطينية، وذلك في اول إتصال من قبل الإدارة الجديدة، مع الفلسطينيين.
26 توصية في حال نقل السفارة
في يوم 5 كانون الثاني / يناير إجتمع عريقات وفرج وعضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" محمد اشتيه ووزير الخارجية رياض المالكي والمستشار الدبلوماسي للرئيس مجدي الخالدي في رام الله وذلك بطلب من الرئيس عباس، لوضع التصورات المحتملة لنقل السفارة الأميركية إلى القدس والخطوات الفلسطينية المطلوبة في حال إقدام ترامب على هذه الخطوة.
وضع الفريق الفلسطيني، بالتشاور مع أعضاء من اللجنة المركزية لحركة "فتح" واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، 26 توصية للقيادة الفلسطينية.
كان أهم هذه التوصيات، التي حصلت "مجلة الدراسات الفلسطينية"، على نسخة منها:
- طرح مشروع قرار أمام مجلس الأمن لإدانة هذه الخطوة واعتبارها لاغية وباطلة وبوجوب التراجع عنها، وفي حال استخدم "الفيتو"، يتم الذهاب إلى الجمعية العامة فوراً والدعوة لاجتماع تحت مظلة الاتحاد من أجل السلام.
- تقديم طلب إحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية حول الاستيطان والعدوان على غزة والأسرى.
- تتخذ اللجنة التنفيذية توصية بسحب اعتراف م.ت.ف. بدولة إسرائيل، وربط الاعتراف بأن يكون متبادلاً بين دولة إسرائيل ودولة فلسطين.
- الانتقال من السلطة إلى الدولة على أساس قرار الجمعية العامة 67/19/2012، واعتبار الرئيس (رئيس دولة فلسطين) ، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الحكومة المؤقتة لدولة فلسطين، والمجلس الوطني برلمان دولة فلسطين.
- طرح مشروع قرار أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لمنع إسرائيل من العمل في الجمعية العامة للأمم المتحدة
- الاعداد لعرض القضيـــــة أمام المحكمة العليا الأميركية، على اعتبار قرارات الكونغرس، ونقل السفارة مخالفة للدستور الأميركي، وتدخل في أمور خارجية ليست من صلاحياتها.
ووجه الرئيس عباس في 8 كانون ثاني / يناير رسائل إلى العديد من قادة الدول وخاصة العربية والإسلامية والدول الصديقة بما فيها روسيا والصين وأوروبا طالبهم فيها بالتحرك وحث الرئيس الأميركي على عدم نقل السفارة وإصدار تصريحات علنية بهذا الشأن.
وأصدر الأردن بياناً حذر فيه من مخاطر هذه الخطوة قبل أن يتوجه العاهل الأردني إلى الولايات المتحدة لتحذير الإدارة الأميركية الجديدة من مخاطر هذه الخطوة.
ولاحظ مراقبون إنه فيما عدا التحرك الأردني فإن باقي الدول العربية والإسلامية التزمت الصمت إلى حين المح الرئيس الأميركي بأن القرار صعب، فصدرت عدة بيانات عربية وإسلامية.
وفي هذا الصدد رأى عريقات أن "إدارة الرئيس ترامب قد تغير مواقف الادارات الأميركية المتعاقبة منذ عام 1967 والتي رفضت قرار إسرائيل بضم القدس الشرقية، واعتبرت الاستيطان غير شرعي ومخالف للقانون الدولي، وأكدت على خيار الدولتين على حدود 1967".
5 خيارات لنقل السفارة
لم يغلق ترامب، حتى الان، الباب نهائيا أمام ما وصفه بـ "القرار الصعب" بنقل السفارة، مشدداً في أكثر من مناسبة على أنه "جاد في القرار" ولكن من دون أن يحدد موعداً للتنفيذ، إلاً أن مسؤولين ومراقبين فلسطينيين حددوا 5 خيارات لإمكانية نقل السفارة، وهي:
1 - نقل السفارة وإنهاء دور القنصلية الأميركية العامة في القدس.
2 - نقل السفارة الأميركية إلى القدس الغربية مع الإبقاء على القنصلية الأميركية العامة في القدس الشرقية.
3 - ابقاء الوضع على ما هو عليه حيث تبقى القنصلية العامة في القدس الشرقية والسفارة في تل ابيب.
4 - الإعلان عن إطلاق مشروع بناء السفارة وهي عملية قد تستغرق عدة سنوات مع إبقاء الوضع، مرحليا، على ما هو عليه.
5 - الإعلان عن خطة سلام تتضمن نقل السفارة.
أيار.. شهر حاسم
ويرى مراقبون أن شهر أيار / مايو المقبل سيكون حاسماً بإتجاه نوايا الرئيس الأميركي ترامب بشأن نقل السفارة، ففيه تنتهي فترة الأشهر الستة للمذكرة التي وقعها الرئيس أوباما بتعليق نقل السفارة إلى القدس.
فمنذ قرار الكونغرس سنة 1995 بنقل السفارة الأميريكة من تل ابيب إلى القدس، درج الرئيسان الجمهوريبوش الإبن والديمقراطي أوباما على توقيع مذكرات كل 6 أشهر بتعليق نقل السفارة إلى القدس.
وتتوجه الأنظار إلى الرئيس الأمريكي الجديد في شهر أيار / مايو لمعرفة ما إذا كان سيواصل مسيرة سلفيه بتوقيع مذكرة بتعليق نقل السفارة، أم أنه سيخالف ذلك.
تاريخ القنصلية الأميركية في القدس
عين الرئيس الأميركي جون تايلر أول قنصل للولايات المتحدة في القدس في سنة 1844، ولاحقا تم تأسيس تواجد قنصلي دائم في سنة 1857 في مبنى داخل باب الخليل في البلدة القديمة، وانتقلت إلى خارج البلدة القديمة في سنة 1912 إلى موقعها الحالي فيشارع أغرون في القدس الغربية.
شمل مبنى القنصلية الأصلي، الذي أقيم سنة 1868 طبقتين فقط، وتم إضافة الثالث في أوائل القرن العشرين، حيث يضم المبنى اليوم كل من مكان إقامة القنصل العام ومكاتب الموظفين.
وقد تم تحديد البعثة كقنصلية عامة في سنة 1928، وهي تمثل البعثة الدبلوماسية الرسمية للولايات المتحدة في القدس والضفة الغربية وغزة كبعثة مستقلة تحت إدارة القنصل العام كرئيس للبعثة، كما توفر القنصلية أيضا خدمات لحاملي الجنسية الأميركية في القدس والضفة الغربية وغزة.
وفي سنة 1951، استأجرت الحكومة الأميركية موقعاً آخر في شارع نابلس في القدس الشرقية يضم القسم القنصلي التابع للقنصلية العامة والذي يؤمن خدمات لحاملي الجنسية الأميركية والتأشيرات، وبقيت هناك حتى أيلول / سبتمبر 2010 حيث تم الإنتقال إلى حي ارنونا في القدس الغربية.
أبقت القنصلية الأميركية على مقرها في شارع نابلس حيث يستخدم الآن كقسم ثقافي يحمل اسم" البيت الأميركي".
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع "مجلة الدراسات الفلسطينية".]